فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48].
أي أن وسوسة الشيطان للكفار كانت في صورة تضخيم قوتهم وأن أحدًا لن يغلبهم في قتالهم ببدر، وأنه- أي الشيطان- سيناصرهم في المعركة ويجيرهم إن حدث لهم سوء، ولكن هل للشيطان سلطان على أن يُعين الكفار؟ نحن نعلم أن الشيطان ليس له سلطان إلا التزيين فقط، فكيف يكون له سلطان على نتيجة المواجهة بين الحق والباطل؟. إن الشيطان يأتي في الآخرة فيطلب منه الكفار أن يجبرهم من عذاب الله تعالى؛ لأنه هو الذي أغواهم وزين لهم سوء أعمالهم وجرهم إلى طريق النار، فيتبرأ منهم ويقول لهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22].
أي أنه يقول للكافرين: أنا لم أجبركم على المعاصي، فلم يكن لي عليكم سلطان القهر؛ لأقهركم على أن تفعلوا شيئًا ولا سلطان الحجة لأقنعكم بأن تفعلوا المعاصي، ولكني بمجرد أن دعوتكم استجبتم لي؛ لأنكم تريدون المعصية واتباع شهواتكم. وقوله: {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ}
وأصرخ فلانًا أي سمع صراخه فذهب إليه لينقذه، والإنسان عندما يواجه قوة أكبر منه يلجأ إلى الصراخ لعل أحدًا يسمع صراخه ويأتي لنجدته. والذي يسمع الصراخ إما أن يكون ضعيفًا فلا يستجيب؛ لأنه لا يستطيع أن ينقذ ذلك الذي يواجه الخطر، وإما أن يكون قوّيًا فيذهب لنجدته، فيقال: (أصرخه) أي أنقذه وأزال سبب صراخه، وقوله تعالى حاكيا ما يقوله الشيطان: {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} أي أن الشيطان لا يستطيع أن ينجيهم من العذاب وينقذهم منه، فيزيل سبب صراخهم: {وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي أنتم لا تستطيعون دفع العذاب عني.
وقد أخذ الشيطان يزين لهم أعمالهم ويعدهم كذبًا بأنه سيجيرهم ويؤازرهم ويعمل على نصرهم حتى اقترب المؤمنون والكفار من بعضهم البعض وأصبحوا على مدى رؤية العين.
{فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بريء مِّنْكُمْ} [الأنفال: 48].
أي أنه بمجرد الترائي بين المؤمنين والكفار، وقبل أن يلتحموا في المعركة ويبدأ القتال هرب الشيطان وتبرأ من الكفار وجرى بعيدًا، وهذا ما يشرحه الله تعالى في قوله: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بريء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [الحشر: 16].
وهذا كلام منطقي مع موقف الشيطان حينما طرده الله ولعنه؛ لأنه رفض تنفيذ أمر السجود لآدم؛ فقال له الله عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين} [ص: 78].
حينئذ تضرع الشيطان إلى الله تعالى أن يبقيه إلى يوم القيامة: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14].
وهكذا أقر الشيطان بطلاقة القدرة لله تعالى وبأنه عاجز لا يقدر على شيء أمام قوة الله، فقال الحق تبارك وتعالى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 37-38].
إذن فالشيطان لا قدرة له ولا قوة على فعل شيء، وكل ما يمكنه هو الخداع والتزيين والكذب، ولذلك أخذ يخدع الكفار ويكذب عليهم، وما أن صار المؤمنون والكفار على مدى رؤية العين بعضهم لبعض، هرب الشيطان وفزع ونكص على عقبيه، وأعلن خوفه من الله؛ لأنه يعلم أن الله شديد العقاب.
إذن فمصدر خوف الشيطان هنا هو الخوف من العقاب ومن العذاب الذي سيصيبه حتمًا، ولم يفزع الشيطان- إذن- حبًّا لله تعالى. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} الآية.
وهذه من جملة النعم التي خصَّ اللَّهُ أهل بدر بها، وفي العامل في إذْ وجوه: قيل: تقديره اذكر إذْ زيَّن لهم، وقيل: عطف على ما تقدم من تذكير النعم، وتقديره: واذكروا إذ يريكموهم وإذْ زيَّن.
وقيل: هو عطف على قوله: {خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ الناس} تقديره: ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس وإذ زيَّن لهم الشيطان أعمالهم؛ فتكون الواو للحال، وقد مضمرة بعد الواو، عند من يشترط ذلك والله أعلم.
قوله: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم}
{لكم} خبر {لا} فيتعلق بمحذوف، و{اليَوْمَ} منصوب بما تعلَّق به الخبر، ولا يجوزُ أن يكون {لكم} أو الظرف متعلقًا بـ {غَالِبَ}؛ لأنه يكون مُطَوَّلا ومتى كان مُطَوَّلًا أعرب نَصْبًا.
قوله: {مِنَ النَّاس} بيان لجنس الغالبِ.
وقيل: هو حالٌ من الضَّميرِ في {لَكُمُ} لتضمُّنه معنى الاستقرار، ومنع أبو البقاءِ أن يكون {من النَّاس} حالًا من الضمير في {غَالِبَ}، قال: لأنَّ اسم لا إذا عمل فيما بعده أعرب والأمر كذلك.
قوله: {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكُون معطوفةً على قوله: {لاَ غَالِبَ لَكُمْ} فيكون قد عطف جملة مثبتة على أخرى منفيَّة، ويجوزُ أن تكون الواو للحال، وألف {جارٌ} من واو، لقولهم: تَجاورُوا وقد تقدَّم تحقيقه [النساء: 36].
و{لكم} متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنَّهُ لـ {جارٌ}، ويجُوز أن يتعلَّق بـ {جار} لما فيه من معنى الفعل، ومعنى {جار لكم} أي: مجير لكم من كنانة.
قوله: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفئتان} أي: التقى الجمعان؛ {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} {نَكَصَ}: جواب لمَّا والنُّكُوص: قال النضر بنُ شميلٍ: الرُّجوع قَهْقَرَى هاربًا، قال بعضهم: هذا أصله، إلاَّ أنه قد اتُّسِع فيه، حتى استُعْمل في كلِّ رجوع، وإن لم يكن قَهْقَرَى؛ قال الشاعر: [البسيط]
هُمْ يَضْربُونَ حَبيكَ البَيْض إذْ لَحِقُوا ** لا يَنْكُصُونَ إذَا مَا استُلْحِمُوا وحَمُوا

وقال مُؤرِّج: النُّكُوصُ: الرجوعُ بلغة سُلَيْم؛ قال: [البسيط]
لَيْسَ النُّكُوصُ على الأعقابِ مَكْرُمَةً ** إنَّ المكارِمَ إقْدَامٌ على الأسَلِ

فهذا إنَّما يريدُ به مُطْلَق ارُّجوع؛ لأنَّهُ كنايةٌ عن الفرارِ، وفيه نظر؛ لأنَّ غالب الفرار في القتال إنَّما هو كما ذُكِر، رجوعُ القَهْقَرَى، كخوف الفَار.
و{عَلَى عَقبَيْهِ} حال، إمَّا مؤكدةٌ، عند من يَخُصُّه بالقهقرى، أو مُؤسِّسةٌ، عند من يستعمله في مطلق الرُّجُوعِ. اهـ. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)}
الشيطان إذا زيَّن للإنسان بوساوسه أمرًا، والنَّفْسُ إذا سوَّلت له شيئًا عَمِيَتْ بصائرُ أرباب الغفلة عن شهود صواب الرُّشد، فيبقى الغافل في قِياد وساوسه، ثم تلحقه هواجمُ التقدير من كوامن المكر من حيث لا يرتقب، فلا الشيطان يفي بما يَعِدُه، ولا النفس شيئًا مما تتمنَّاه تجده، وكما قال القائل:
أحسنتَ ظنَّك بالأيام إذ حَسُنَتْ ** ولم تَخَفْ سوءَ ما يأتي به القَدَرُ

وسالمتْكَ الليالي فاغتَررْتَ بها ** وعند صفوِ الليالي يَحْدُثُ الكَدرُ

. اهـ.

.تفسير الآية رقم (49):

قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما استوفى ما كان يقطع به في حق أولئك مما هو من أنفسهم ومما هو من تزيين الشيطان، أبدل منه ما كان يقطع به في حقهم من أهل الجهل بالله وبأيامه الماضية وآثاره عند أوليائه وأعدائه فقال: {إذ يقول المنافقون} أي من العرب وبني إسرائيل قولًا يجددونه كل وقت لما لهم فيه من الرغبة {والذين في قلوبهم مرض} أي ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه ممن آمن ولم يهاجر أو من اليهود المصارحين بالكفر حين يرون الكفار وقوتهم وكثرتهم والمؤمنين وضعفهم وقلتهم {غرَّ هؤلاء} مشيرين إليكم {دينهم} أي في إقدامهم على ما يقطع فيه بهلاكهم ظنًا منهم أن الله ناصرهم وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف ملوك العرب، فيغيظكم ذلك، فكذبهم الله وصدق أمركم بتوكلكم عليه وصبركم على دينكم {ومن} أي قالوا ذلك عالمين بأنكم متوكلون عليه وصبركم على دينكم {ومن} أي قالو ذلك عالمين بأنكم متوكلون على من تدينون له والحال أنه من {يتوكل على الله} أي الذي له الإحاطة الشاملة، فهو يفعل ما يشاء منكم ومن غيركم بشرطه من الإيمان والسعي في الطاعة كما فعلتم فإنه معز ومكرم.
ولما كان سبحانه محيطًا بكل صفة كمال على الإطلاق من غير قيد توكل ولا غيره، أظهر تعالى فقال عاطفًا على تقديره: فإن الله قادر على نصره: {فإن الله} أي الذي له الكمال المطلق {عزيز} أي غالب لكل من يغالبه فهو جدير بنصره {حكيم} أي متقن لأفعاله فهو حقيق بأن يأخذ عدو المتوكل عليه من الموضع الذي لا ينفعه فيه حيلة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
إنما لم تدخل الواو في قوله: {إِذْ يَقُولُ} ودخلت في قوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ} [الأنفال: 48] لأن قوله: {وَإِذْ زَيَّنَ} عطف على هذا التزيين على حالهم وخروجهم بطرًا ورئاء، وأما هنا وهو قوله: {إِذْ يَقُولُ المنافقون} فليس فيه عطف لهذا الكلام على ما قبله بل هو كلام مبتدأ منقطع عما قبله، وعامل الإعراب في {إِذْ} فيه وجهان: الأول: التقدير والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون والثاني: اذكروا إذ يقول المنافقون.
المسألة الثانية:
أما المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج، وأما الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا.
ثم إن قريشًا لما خرجوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا.
قال محمد بن إسحق: ثم قتل هؤلاء جميعًا مع المشركين يوم بدر.
وقوله: {غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ} قال ابن عباس: معناه أنه خرج بثلثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل، وما ذاك إلا أنهم اعتمدوا على دينهم.
وقيل المراد: إن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم، رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت ويثابون على هذا القتل.
ثم قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي ومن يسلم أمره إلى الله ويثق بفضله ويعول على إحسان الله، فإن الله حافظه وناصره، لأنه عزيز لا يغلبه شيء، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه، والرحمة والثواب إلى أوليائه. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}، يعني شكًا ونفاقًا.
قال الحسن: هم قوم من المنافقين لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسموا منافقين؛ وقال الضحاك: نزلت في عبد الله بن أبيّ وأصحابه؛ ويقال: معناه إذ يقول المنافقون وهم الذين في قلوبهم مرض.
قال ابن عباس: نزلت الآية في الذين أسلموا بمكة وتخلفوا عن الهجرة، فأخرجهم أهل مكة إلى بدر كرهًا، فلما رأوا قلة المؤمنين ارتابوا ونافقوا، وقالوا لأهل مكة: {غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ}.
وقاتلوا مع المشركين فقتل عامتهم.
يقول الله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله}، يعني يثق بالله ولا يثق بغيره، {فَإِنَّ الله عَزِيزٌ} بالنقمة، {حَكِيمٌ} حكم بهزيمة المشركين. اهـ.

.قال الثعلبي:

{إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}
شك ونفاق {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} يعني المؤمنين هؤلاء قوم بمكة مستضعفين حبسهم آباؤهم وأقرباؤهم من الهجرة، فلمّا خرجت قريش إلى بدر أخرجوهم كرهًا، فلمّا نظروا إلى حلة المسلمين ارتابوا وارتدّوا وقالوا: غرّ هؤلاء دينهم فقتلوا جميعًا منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان والحرث بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج والوليد بن عتبة وعمرو بن بن أمية، فلما قُتلوا مع المشركين ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم فذلك قوله تعالى: {وَلَوْ ترى}. اهـ.